بقلم: كريستوفر ميمز

يدور خلاف بين الولايات المتحدة والصين، منذ أشهر، حول حقوق براءات الاختراع الخاصة بمكونات دقيقة تدخل في تركيب وتشغيل الجيل الخامس من تكنولوجيا الاتصالات. ورغم بقاء النزاع عالقاً حتى الآن، تعكف الشركات الأميركية المزودة لخدمة الإنترنت فائق السرعة على العمل بكل قوة للانتهاء من التجهيزات اللازمة للتشغيل، سواء حسمت الدولتان خلافاتهما أم لا. فما هو الجيل الخامس؟ وكيف تبدو الصورة في المدن الأميركية الآن؟
تعتمد تكنولوجيا الجيل الخامس على إرسال موجات لاسلكية قصيرة الطول عالية التردد، قادرة على زيادة سرعة الإنترنت من عشرة أضعاف إلى مئة ضعف السرعات المتاحة حالياً. ويتطلب التشغيل بالكفاءة المنشودة تثبيت أبراج إرسال صغيرة الأبعاد على مسافات تتراوح بين 200 متر و300 متر تقريباً، بأقصى تقدير.
وتستخدم هذه الأبراج في تقوية موجات الميكرويف اللاسلكية الخاصة باتصالات الهواتف المحمولة، لتوفير خدمة إنترنت فائق السرعة لأعداد أكبر من المشتركين. وتختلف هذه التكنولوجيا عن المستخدمة في الأجيال السابقة (4 جي و3جي)، في أن هذه التكنولوجيات تعتمد على أبراج تقوية كبيرة الحجم مزودة بهوائيات شديدة القوة، تبنى على مسافات متباعدة لتغطية مساحات تقدر بعشرات الكيلومترات المربعة دفعة واحدة، فتستفيد منها أحياء بكاملها، بل وبلدات صغيرة أحياناً.
علاوة على هذا، يجب مد كابلات من الألياف الضوئية بقطر بوصة وربع البوصة تقريباً تحت الأرض، للربط بين نقاط التحكم (السنترالات) التي تتولى إرسال الموجات الحاملة إلى أبراج التقوية فتعيد الإرسال إلى المشتركين. وبهذه الصورة، يمكن القول إن الجيل الخامس من الاتصالات هو عبارة عن باقة من أنماط تكنولوجية عدة، متقدمة وتقليدية، تعمل معا لبناء شبكة واحدة.
ولكن ما يثير الدهشة حقاً أن هذا الجيل يتطلب مد كابلات أرضية بسخاء ملحوظ لم تعرفه الأجيال السابقة، نظراً لضرورة ربط الأبراج الصغيرة المتقاربة معاً، ثم ربطها بموزع الإنترنت المعتاد، ومنه إلى المشتركين. وهكذا، بدأت شركات الاتصالات الأميركية الكبرى في التعاقد مع مقاولين متخصصين للحفر ومد الكابلات الأرضية في شوارع معظم المدن، وبوتيرة لم يعهدها الأميركيون من قبل.
وبعد انتهاء مهمتهم، تظهر فرق أخرى أكثر تخصصاً وأعلى حرفية تتولى ربط حزم كابلات الألياف الزجاجية بالأطراف الأخرى للشبكة.. شركات، ومنازل، وأبراج الإرسال. وحتى ندرك دقة المهمة المنوطة بهذه الفرق، فعلينا أن نعلم أن كابل الألياف الضوئية الواحد يقل قطره عن ثلاثة سنتيمترات فقط، ويضم حزمة أسلاك معزولة عالية التوصيل عددها 864 سلكاً، وتشكل معاً ما يشبه خصلة الشعر.
ولتنقل هذه الكابلات نبضات الاتصال ذات التردد العالي عريضة الموجة بكل يسر، وبالسرعة اللازمة، يجب على أفراد هذا الفريق الفني توصيل كل سلك منها بالطرف الآخر المحدد، ويتسبب أدنى خطأ في تنفيذ خريطة التوصيل والتوزيع في قطع خدمة الإنترنت عن المشتركين على الفور. ولا يتوقف العمل عند هذا الحد، حيث تظهر فرق فنية أخرى لتركيب هوائيات الإرسال الصغيرة الجديدة في أعلى المباني السكنية والإدارية.

ضخامة المشروع
وتعترف شركات الاتصال الأميركية العملاقة، وفي مقدمتها «إيه تي آند تي» «AT&T»، بضخامة العبء من جهتي حجم الأعمال المدنية، والكلفة المالية المترتبة عليها. إذ يتطلب الجيل الخامس مد هذه الكابلات وملحقاتها من الأبراج والأجهزة في المدن والحواضر المالية الكبرى، ثم الأقل سكاناً والأدنى حيوية، وصولاً إلى البلدات والمراكز الريفية النائية في شتى الولايات الأميركية. وتصل المدة الزمنية اللازمة للتنفيذ إلى نحو عشرة أعوام على أدنى تقدير، أما التكلفة فتقدر بعشرات المليارات من الدولارات، مبدئياً.
ولإيضاح الصورة بشكل أفضل، سنأخذ مكوناً واحداً وهو الكابلات. فقد تعاقدت شركة الاتصالات الأميركية «فيريزون»، على سبيل المثال، مع شركة «كورنينج» على شراء كابلات من الألياف الضوئية بقيمة مليار دولار في ربيع عام 2017. ويضمن العقد لـ «فيريزون» الحصول على كابلات بأطوال تصل إلى أكثر من 22 مليون كيلومتر سنوياً. ويعادل هذا الرقم مسافة الدوران حول الكرة الأرضية 500 مرة لثلاثة أعوام !
رغم هذا، توصف الكابلات بأنها الجزء الأقل كلفة في المشروع ككل، إذا أخذنا في الاعتبار قيمة المكونات الأخرى للمشروع، ناهيك عن التكلفة الهائلة لأعمال الحفر والردم في أرصفة المدن لمد الكابلات، وهي المهمة الأكثر إيلاماً لشركات الاتصالات والمواطنين العاديين. ويضاف إلى هذا كله المقابل المادي لتصاريح الحفر الصادرة عن الإدارات المحلية، واتفاقات استئجار مساحات لنصب هوائيات الإرسال التي يجب التوصل إليها مع ملاك الأراضي، وأصحاب المباني قبل التشغيل.
وقدرت شركة «ديلويت» الاستشارية كلفة هذه الأعمال مجتمعة بما يتراوح بين 130 ملياراً و150 مليار دولار، لضمان توصيل الخدمة إلى مختلف المناطق.

تحديات التنفيذ والتشغيل
ويرى محللون أميركيون أن تحديد 10 أعوام للتنفيذ يمثل تفاؤلاً بالغاً من جانب شركات الاتصالات، هذا إن توافر التمويل اللازم بهذا الحجم في خلال تلك المدة.
من جهة أخرى، بدأت بعض الإدارات المحلية للمدن في مقاضاة اللجنة الفيدرالية الأميركية للاتصالات لوقف العمل باللوائح التي وضعتها لتنفيذ المشروع بالسهولة اللازمة. كما شرع أعضاء في الكونجرس في إعداد تشريع خاص لإلغائها كلياً. وترى السلطات المحلية للمدن أن هذه اللوائح تحابي شركات الاتصالات على حسابها، وعملياً فإنها تمثل دعماً للمشروع بطريقة غير مباشرة، وهو أمر ترفضه.
بل وشرعت بعض الولايات والمدن في وضع قواعد العمل التي تلائمها، ومن أبرزها الالتزام بمبدأ «الحفر لمرة واحدة» للانتهاء من مد الأنابيب وبداخلها الكابلات لكل الشركات المزودة للخدمة معاً، وزرع غرف التفتيش الأرضية اللازمة في الشوارع. وقد يتطلب الأمر إلزام مقاولي مشروعات الطرق الجديدة باستحداث أنفاق لمد الكابلات بداخلها مستقبلاً، دونما حاجة إلى الحفر في كل مرة. ويعني هذا عملياً تكلفة إضافية لتغيير مواصفات مشروعات الرصف.
وكان ملاك العقارات، والمباني الإدارية، والإدارات المحلية، قد لاحظوا تقدم شركات الاتصالات بطلبات للإذن بالحفر في أوقات متزامنة. ويتعين تقديم الموافقات لكل منها على حدة، أي الإذن بالحفر أكثر من مرة في النطاق نفسه، وهو أمر يفتقر إلى المنطق. وقد تصادف وجود أكثر من فريق للحفر في موقع واحد، فلجأوا إلى تنسيق العمل فيما بينهم بشكل طوعي، ولكنه أمر غير مضمون طيلة الوقت.

عقدة كشك البيتزا
يقدر عدد أبراج هوائيات الإرسال المعتادة حالياً «الخلايا» في أنحاء الولايات المتحدة بنحو 349.344 خلية. ويتطلب تشغيل الجيل الخامس إضافة 769.000 هوائي إضافي من النوع الجديد الأصغر حجماً، الذي يشبه إلى حد كبير أجهزة بيع فطائر البيتزا آلياً، المنتشرة في المدن الأميركية، وإن كان أكبر منها حجماً نوعاً ما، مع ضمان توافر مصدر قريب للتغذية بالكهرباء، وموزع للإنترنت.
ويجب زرع هذه الهوائيات الإضافية بحلول عام 2026 وبالاشتراطات المحددة، وهي أن تكون على مسافات متقاربة، وأينما توافرت مساحة لذلك في الشوارع، وأعلى أسطح المباني، وأعمدة الهاتف، بل وعلى أعمدة الإنارة بعد تعديلها خصيصاً لهذا الغرض. وختاماً، فإن تكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات اللاسلكية والإنترنت فائق السرعة تتطلب مد كابلات بأطوال هائلة وهنا مكمن المفارقة. وقد يتسبب العبء المالي الواقع على عاتق الشركات في منح الأولوية المطلقة للمدن الكبرى والتغاضي مرحلياً عما هو دونها. ويعني هذا انعدام المساواة في الحصول على الخدمة بين الأميركيين ولو في خلال المراحل الأولى من التشغيل. إنها مشكلة.